نظم المركز في إطار برنامج سيمناره، لقاء علمي؛ وذلك يوم السبت 3 يونيو 2023، تحت عنوان : "الذاكرة البديلة للكتلة الصامتة عشر سنوات من تاريخ طفلة (1800 - 1810)".
بدأ اللقاء بأن طرح المحاضر الأستاذ الدكتور. ناصر سليمان، أستاذ التاريخ الاجتماعي الحديث والمعاصر بجامعة قطر، سؤالا: كيف يمكننا البحث عن " ذاكرة بديلة "، تمكننا من استعادة قصة طفلة الحقيقية، ودفعها للتحدث أو بالأحرى استنطاقها، ولو على لسان غيرها، ممن حالفنا الحظ أن ترك لنا مجموعة من الوثائق. تلك المخلفات التي في الإمكان العودة إليها اليوم، نستكشف عبرها الكثير من ملامح حياة تلك الفئة الصامتة، ونتناولها وفق رؤية منهجية نقدية، تضع الصامتين في سياق أوسع من تطور الأحداث المرتبطة بهم، لتصبح قصتهم قصة المجتمع نفسه، وما أصابهم من تحول في حياتهم الصغيرة، هو انعكاس واضح لتحول أكبر طال مجتمعهم.
في هذا السياق المنهجي تناول عشر سنوات من تاريخ طفلة، تُدعى " ماري ديستان "، تختلط في مكوناتها أصول مصرية يونانية وفرنسية في آن، وترتبط، وهو الأهم بحدث كبير، حملة بونابرت على الشرق (1798 -1801)، ذلك الحدث التحولي الذي شكل منعطفا تاريخيا في علاقة الشرق بالغرب. والجديد في قصة ماري ديستان، أنها كانت هي نفسها نتاجا لهذا الحدث، وكانت هي نفسها أيضا التي كتبت لقصة حملة بونابرت فصلا مجهولا، لم نكن نتصوره أو نعرف عنه شيء لا في الأدبيات المصرية أو الفرنسية، فصلا جديدا جرت وقائعه بعد جلاء جيش بونابرت مهزوما في مصر وعودته إلى فرنسا في أواخر عام 1801.
فقصة ماري ديستان تشكلت عقدتها الأساسية، وهى على أرض فرنسا، لا مصر - التي لم ترها ولم تلامس أقدامها حبة من رمالها، لكن مصر حاضرة في كل مكونات الأحداث- وتطور مشكلة ماري أمام ساحة القضاء الفرنسي، التي شكلت له أكبر تحدي واجه القضاة الفرنسيين، وهم يصرخون بأعلى صوتهم، ويسجلون في أضابير محاضر محاكمهم، قصة هذه الطفلة، وما مثلته من معضلة أمام القانون، وكيف حفزت قريحتهم للدعوة إلى ضرورة خلق قانون جديد خاص بحالتها، حتى لا تضيع حقوق جيل يُمثلها أو تمثله هي بتجربتها الحزينة، جيل أنشأته الموجة الاستعمارية في مجتمعات كانت هي ضحية احتلال جيوشهم لها. ومن المفارقات هنا، أن القضاة الفرنسيين يطرحون مأساة هذا الجيل من منظور العدالة والإنسانية، بعيدا عن وحشية التاريخ الأسود للكولونيالية الاستعمارية، التي يقرون بأنها ستستمر وفقا لاتجاهات فرنسا والقوى الأوربية إلى التوسع الخارجي الذي بات حقيقة واقعية ومستمرة، ليصبح سؤالهم أن على القضاء الفرنسي أن يضع تشريعا يحمى حقوق جيل ولد وسيولد من عصب الجنود والضباط الفرنسيين الذين اختلطوا بنساء المستعمرات، فماذا على فرنسا وتشريعاتها أن تفعل أمام هذا التحدي الجديد؟
وبعيدًا عن ساحة المحكمة، كان المغزى الأهم في قصة الطفلة ماري ديستان، مرتبطاً بوعى أمها "أنونه" (بنطقها المصري المسجل في جواباتها) أو " آنّـا " (وفقا لاسمها الرسمي في المحاكم الفرنسية): تلك الأم التي امتلكت ما نسميه بالذاكرة البديلة، الذاكرة الحامية لابنتها التي كبرت مع تطورات القضية نفسها أمام القضاء، منذ حملتها على يديها، لأول مرة وهى رضيعة، لم يتجاوز عمرها في الحياة بضعة شهور، لتعرض قضيتها، إلى أن كبرت لعشر سنوات استغرقتها القضية، لتكون آخر كلمات للطفلة ماري ديستان في ساحة المحكمة: هذا أبي الذي تنكرونه عليّ، لو كان حياً لصرخ في وجوهكم بحقيقتي، أنني ابنته ! تلك الصرخة الممزوجة بالمرارة والألم بدت كقفاز نزعته الطفلة ماري ديستان لتلقي به في وجه المجتمع الفرنسي الذي لطالما رفع شعاره الوطني: حرية، مساواة، أخوة.